فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

واختلف الناس في تأويل الوجه الذي جاء مضافًا إلى الله تعالى في مواضع من القرآن، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز كلام العرب، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدرًا، وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى، وضعف أبو المعالي هذا القول، ويتجه في بعض المواضع كهذه الآية أن يراد بالوجه الجهة التي فيها رضاه وعليها ثوابه، كما تقول تصدقت لوجه الله تعالى، ويتجه في هذه الآية خاصة أن يراد بالوجه الجهة التي وجهنا إليها في القبلة حسبما يأتي في أحد الأقوال، وقال أبو منصور في المقنع: يحتمل أن يراد بالوجه هنا الجاه، كما تقول فلان وجه القوم أي موضع شرفهم، فالتقدير فثم جلال الله وعظمته. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية.
أفرد في هذه الآية المشرق والمغرب وثناهما في سورة الرحمن في قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} وجمعهما في سورة سأل سائل في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب}، وجمع المشارق في سورة الصافات في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}.
والجواب أن قوله هنا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} المراد به جنس المشرق والمغرب فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون، وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك كما روي عن ابن عباس وغيره.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية ما نصه:
وإنما معنى ذلك ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم فتأويله إذا كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي تعده وكذلك غروبها، انتهى منه بلفظه.
وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} يعني كشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما كما عليه الجمهور.
وقيل: مشرق الشمس والقمر ومغربهما، وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب}أي مشارق الشمس ومغاربها كما تقدم.
وقيل مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}.
الإشارة منها إلى مشارق القلوب ومغاربها. وللقلوب شوارق وطوارق. وطوارقها هواجس النفوس تطرق في ظلمات المنى والشهوات.
وشوارقها نجوم العلوم وأقمار الحضور وشموس المعارف.
فما دامت الشوارق طالعة فَقِبلْةُ القلوب، واضحة ظاهرة، فإذا استولت الحقائق خَفَى سلطانُ الشوارق، كالنجوم تستتر عند طلوع الشمس، كذلك عند ظهور الحق يحصل اصطلام وقهر، فلا شهود رسم، ولا بقاء حِسِّ وفَهْم، ولا سلطان عقل وعلم، ولا ضياء عرفان. فإن وجدان هذه الجملة صفات لائقة ببقاء البشرية، وإذا صار الموصوف محوًا فأنَّى لهم ببقاء الصفة.
قال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} ما دام يبقى من الإحساس والتمييز بقية- ولو شظية- فالقِبْلة مقصودة، فإن لم تكن معلومة تكون مطلوبة. وعلى لسان العلم إذا اشتبهت الدلائلُ بكلِّ وِجْهَةٍ، ولا معرفةَ بالقِبْلة تَسَاوَتْ الجهاتُ في جواز الصلاة إلى كل واحدٍ منها إذا لم يكن للنية ترجيح. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}.
قال في سورة المعارج: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب} قال ابن عرفة: إما على أن الأرض كروية فتعدد المشرق والمغرب ظاهر لأن كل موضع مغرب لقوم مشرق لآخرين، وإن قلنا: إنها بسيطة فهو مغرب واحد ومشرق واحد لكنها تتعدد بالفصول فمشرق الصيف غير مشرق الشتاء.
قال ابن عرفة: وفيه إبطال للقول بالجسم والجهة، لأنه لو كان الإلاه جسما للزم عليه حلول الجسم الواحد في الزمن الواحد في مجال متعدد وهو محال.
قيل لابن عرفة: يقول صاحب هذا القول: إنه كالفلك فإنه دائر بالعالم كله بدليل قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} والتولي إنما يكون فيما يحوزه الفلك بل في بعضه فقط.
وإنما أبطلوا الجسمية بدليل آخر فكما أنّا أيْنَما نولّ نَرَ الفلك بعضه فكذلك هو لكن لا نراه والفلك جسم؟
فقال لفظ ثم يقتضي وجوده في المكان الذي يقع فيه التولي حقيقة، وإذا كان كالفلك فليس هو في ذلك المكان.
قوله تعالى: {إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
قال ابن عرفة: هذا إما ترغيب وترهيب أي هو واسع الرحمة عليهم بأعمال العباد فيجازيهم عليها، وإما ترغيب وتأكيد للترغيب أي هو واسع الرحمة مع علمه بأعمال العباد، وهذا أبلغ في رحمته لأن الإنسان قد يرحم عدوه إذا كان جاهلا بِعَداوَتِهِ وعصيانه ولا يرحمه إذا علم بذلك. اهـ.

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {وَللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}.
اختلف أهل التأويل في تأويلها، وسبب نزولها، على سبعة أقاويل:
أحدها: أن سبب ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يستقبل بصلاته بيت المقدس بعد هجرته ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، حتى قالت اليهود: إن محمدًا وأصحابه، ما دروا أين قبلتهم حتى هديناهم، فأمرهم الله تعالى باستقبال الكعبة، فتكلمت اليهود، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول ابن عباس.
والثاني: أن هذه الآية نزلت قبل أن يفرض استقبال القبلة، فأباح لهم أن يتوجهوا بصلاتهم حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، وهذا قول قتادة وابن زيد.
والثالث: أنها نزلت في صلاة التطوع للسائر حيث توجه، وللخائف حيث تمكن من مشرق أو مغرب، وهذا قول ابن عمر، روى سعيد بن جبير عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {فَأَينَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} أن تصلي أينما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعًا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعًا، يومئ برأسه نحو المدينة.
والرابع: أنها نزلت، فيمن خفيت عليهم القبلة، ولم يعرفوا جهتها، فَصَلُّوا إلى جهات مختلفة.
روى عاصم بن عبد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فنزلنا منزلًا، فجعل الرجل يأخذ الأحجار، فيعمل مسجدًا يصلي فيه، فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه إلى غير القبلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والخامس: أنها نزلت في النجاشي، وروى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَخَاكُم النَّجَاشِيّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ» قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم، قال فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم خَاشِعِينَ لِلُّه} [سورة آل عمران الآية: 199] قالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمغْرِبُ فَأينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}.
والسادس: أن سبب نزولها أن الله تعالى لما أنزل قوله: {ادعُوني أسْتَجِبْ لَكُم} قالوا إلى أين؟ فنزلت: {فأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115].
والسابع: أن معناه وحيثما كنتم من مشرق أو مغرب، فلكم قبلة تستقبلونها، يعني جهة إلى الكعبة، وهذا قول مجاهد.
ويجيء من هذا الاختلاف في قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} تأويلان: أحدهما: معناه فثم قبلة الله.
والثاني: فثم الله تعالى، ويكون الوجه عبارة عنه، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27].
وأما {ثَمَّ} فهو لفظ يستعلم في الإشارة إلى مكان، فإن كان قريبًا قيل: هنا زيد، وإن كان بعيدًا قيل: هناك زيد. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}.
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} {المشرق} موضع الشروق.
{والمغرب} موضع الغروب؛ أي هُمَا له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالإيجاد والاختراع؛ كما تقدّم.
وخصَّهما بالذكر والإضافة إليه تشريفًا؛ نحو بيت الله، وناقة الله، ولأن سبب الآية اقتضى ذلك؛ على ما يأتي.
الثانية: قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} شَرْطٌ، ولذلك حذفت النون، وأين العاملة، وما زائدة، والجواب {فَثَمَّ وَجْهُ الله}.
وقرأ الحسن {تَوَلَّوْا} بفتح التاء واللام، والأصل تتولّوا.
وثمَّ في موضع نصب على الظرف، ومعناها البعد؛ إلا أنها مبنية على الفتح غير مُعْربة لأنها مبهمة، تكون بمنزلة هناك للبُعْد، فإن أردت القُرب قلت هنا.
الثالثة: اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} على خمسة أقوال: فقال عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلّى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة؛ أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في ليلة مظلمة فلم نَدْر أين القِبلة، فصلّى كل رجل منّا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}.
قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يُضعَّف في الحديث.
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا؛ قالوا: إذا صلّى في الغيم لغير القِبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلّى لغير القبلة فإن صلاته جائزة؛ وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
قلت: وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكًا قال: تُستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه؛ لأنه قد أدّى فرضه على ما أُمِر، والكمال يُستدرك في الوقت؛ استدلالا بالسنة فيمن صلّى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم؛ ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرّق أو غرّب جدًّا مجتهدًا، وأمّا من تيامن أو تياسر قليلًا مجتهدًا فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره.
وقال المُغِيرة والشافعي: لا يحزيه؛ لأن القِبلة شَرْط من شروط الصلاة.
وما قاله مالك أصح؛ لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المُسايفة، وتبيحها أيضًا الرّخصة حالة السفر.
وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يتنّفل حيثما توجّهت به راحلته.
أخرجه مسلم عنه؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي وهو مُقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}.
ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله.
ولا يجوز لأحد أن يَدَع القبلة عامدًا بوجهٍ من الوجوه إلا في شدّة الخوف؛ على ما يأتي.
واختلف قول مالك في المريض يصلّي على مَحْمَله؛ فمرَّةً قال: لا يصلّي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه.
قال سَحْنُون: فإن فعل أعاد؛ حكاه الباجي.
ومَرّةً قال: إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماءً فلْيُصَلِّ على البعير بعد أن يوقَف له ويستقبل القبلة.
وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد صحيح أن يصلّي فريضة إلا بالأرض إلا في الخوف الشديد خاصة؛ على ما يأتي بيانه.
واختلف الفقهاء في المسافر سفرًا لا تقصر في مثله الصلاة؛ فقال مالك وأصحابه والثَّوْرِي: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة؛ قالوا: لأن الأسفار التي حُكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوّع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حَيّ واللّيث بن سعد وداود بن عليّ: يجوز التطوّع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا؛ لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفرٍ من سفر، فكلّ سفرٍ جائز ذلك فيه، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له.
وقال أبو يوسف: يصلّي في المصر على الدابة بالإيماء؛ لحديث يحيى ابن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلّى على حمار في أزقّة المدينة يومئ إيماء.
وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماش حاضرًا كان أو مسافرًا أن ينتفل على دابته وراحلته وعلى رجليه بالإيماء.
وحكى عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحَضَر والسَّفر.
وقال الأثرم: قيل لأحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر؛ فقال: أمّا في السفر فقد سمعتُ، وما سمعتُ في الحضر.
قال ابن القاسم: من تنفّل في محمله تنفّل جالسًا، قيامُه تربّع، يركع واضعًا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه.
وقال قتادة: نزلت في النَّجاشي، وذلك أنه: لما مات دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة، فقالوا: كيف نصلّي على رجل مات؟ وهو يصلي لغير قِبْلتنا، وكان النَّجاشي ملك الحَبَشة واسمه أَصْحَمَة وهو بالعربية عطية يصلّي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صُرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الآية، ونزل فيه: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} [آل عمران: 199] فكان هذا عُذْرًا للنجاشي؛ وكانت صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه سنة تسع من الهجرة.
وقد استدل بهذا من أجاز الصلاة على الغائب، وهو الشافعي.
قال ابن العربي: ومن أغرب مسائل الصلاة على الميت ما قال الشافعي: يصلي على الغائب؛ وقد كنت ببغداد في مجلس الإمام فخر الإسلام فيدخل عليه الرجل من خراسان فيقول له: كيف حال فلان؟ فيقول له: مات؛ فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ثم يقول لنا: قوموا فلأصل لكم؛ فيقوم فيصلّي عليه بنا، وذلك بعد ستة أشهر من المدّة، وبينه وبين بلده ستة أشهر.
والأصل عندهم في ذلك صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم على النجاشي.
وقال علماؤنا رحمة الله عليهم: النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك مخصوص لثلاثة أوجه:
أحدها: أن الأرض دُحِيتْ له جنوبًا وشمالًا حتى رأى نعش النجاشي، كما دُحيت له شمالًا وجنوبًا حتى رأى المسجد الأقصى.
وقال المخالف: وأيّ فائدة في رؤيته، وإنما الفائدة في لحوق بركته.
الثاني: أن النجاشي لم يكن له هناك وَلِيّ من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه.
قال المخالف: هذا محال عادة! مَلِك على دين لا يكون له أتباع، والتأويل بالمحال محال.
الثالث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه واستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حيًّا وميتًا.
قال المخالف: بركة الدعاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن سواه تلحق الميت باتفاق.
قال ابن العربيّ: والذي عندي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومَن آمن معه ليس عندهم من سُنة الصلاة على الميت أَثَر، فعُلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه.
قلت: والتأويل الأول أحسن؛ لأنه إذا رآه فما صلّى على غائب وإنما صلّى على مَرْئيّ حاضر، والغائب ما لا يُرَى.
والله تعالى أعلم.
القول الرابع: قال ابن زيد: كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وقالوا: ما اهتدى إلا بنا؛ فلما حُوّل إلى الكعبة قالت اليهود: ما وَلاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؛ فنزلت: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} فوَجْه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبّد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجّه إلى بيت الْمَقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجّه إلى الكعبة، فعل لا حجة عليه، ولا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون.
القول الخامس: أن الآية منسوخة بقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ذكره ابن عباس؛ فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلّي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك.
وقال قتادة: الناسخ قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] أي تلقاءه؛ حكاه أبو عيسى الترمذي.
وقول سادس: رُويَ عن مجاهد والضحاك أنها مُحْكَمة، المعنى: أينما كنتم من شَرْق وَغَرْب فَثَمَّ وجهُ الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة.
وعن مجاهد أيضًا وابن جُبير لما نزلت: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا: إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}.
وعن ابن عمر والنَّخَعِيّ: أينما تولُّوا في أسفاركم ومنصرفاتكم فَثَمّ وجه الله.
وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [البقرة: 114] الآية؛ فالمعنى أن بلاد الله أيها المؤمنون تَسَعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرّب مساجد الله أن تولُّوا وجوهكم نحو قِبلة الله أينما كنتم من أرضه.
وقيل: نزلت حين صُدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البيت عامَ الحُدَيْبِيَة فاغتم المسلمون لذلك.
فهذه عشرة أقوال.
ومن جعلها منسوخة فلا اعتراض عليه من جهة كونها خبرًا؛ لأنها محتملة لمعنى الأمر.
يحتمل أن يكون معنى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}: وَلُّوا وجوهكم نحو وجه الله؛ وهذه الآية هي التي تلا سعيد بن جُبير رحمه الله لما أمر الحجاجُ بذبحه إلى الأرض.
الرابعة: اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسُّنة؛ فقال الحُذّاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلّها قدرًا.
وقال ابن فُورك: قد تُذكر صفة الشيء والمراد بها الموصوف توسُّعًا؛ كما يقول القائل: رأيت عِلم فلان اليوم، ونظرت إلى علمه؛ إنما يريد بذلك رأيت العالم ونظرت إلى العالم؛ كذلك إذا ذُكر الوجه هنا، والمراد من له الوجه، أي الوجود.
وعلى هذا يتأوّل قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9] لأن المراد به: لله الذي له الوجه؛ وكذلك قوله: {إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} [الليل: 20] أي الذي له الوجه.
قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه عز وجلّ؛ كما قال: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27].
وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدةٌ على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى.
قال ابن عطية: وضعّف أبو المعالي هذا القول، وهو كذلك ضعيف؛ وإنما المراد وجوده.
وقيل: المراد بالوجه هنا الجهة التي وُجِّهنا إليها أي القبلة.
وقيل: الوجه القصد؛ كما قال الشاعر:
أستغفر الله ذنبًا لستُ مُحْصِيَه ** رَبِّ العباد إليه الوَجْهُ والعَمَلُ

وقيل: المعنى فَثمّ رضا الله وثوابه كما قال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9] أي لرضائه وطلب ثوابه؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة» وقوله: «يُجاء يوم القيامة بصحف مُختمة فتُنصب بين يدي الله تعالى فيقول عز وجل لملائكته ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزّتك يا ربّنا ما رأينا إلا خيرًا وهو أعلم فيقول إن هذا كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغى به وجهي» أي خالصًا لي؛ خرّجه الدارقطنّي.
وقيل: المراد فَثمّ الله؛ والوجه صلة؛ وهو كقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ}.
قاله الكَلْبي والقُتَبِيّ، ونحوه قول المعتزلة.
الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي يوسّع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم.
وقيل: {واسع} بمعنى أنه يَسَع علمه كل شيء؛ كما قال: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98].
وقال الفَرّاء: الواسع هو الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء؛ دليله قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
وقيل: واسع المغفرة أي لا يتعاظمه ذنب.
وقيل: متفضّل على العباد وغنِيٌّ عن أعمالهم؛ يقال: فلان يسع ما يُسئل، أي لا يبخل؛ قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] أي لينفق الغني مما أعطاه الله.
وقد أتينا عليه في الكتاب الأسنى والحمد لله. اهـ.